ذكرياتي مع الاوفياء - الرباع محمد صالح




بقلم الدكتور عبد القادر زينل



الذكريات روافد تصب في مسار الحياة.. يسقط منها ما قد يؤثر سلباً في المسار، ويترسب منها في وعاء الذاكرة ما يؤثر إيجابا في مسارنا الطويل فيتحقق ما يقوله الشاعر: ( إن الذكريات هي معنى العمر في هذه الحياة) وفي سواقي الذاكرة اشخاص ساهموا بهذا القدر أو ذاك في بناء رياضتنا وتحديد نهجها ومستقبلها ..نرفعهم في بيارق الذاكرة وفاء لهم ولما قدموه . ..هذا الوفاء هو الرابط الإنساني الذي يبقى يذكرنا بالمقولة:   (من علّمني حرفاً ملكني عبداً)
إلى هؤلاء جميعاً احني رأسي تقديرا والى ذكراهم أقدم لهم كلماتي  التي   يحكيها القلب والضمير عبر (المدى الرياضي).
البطل الذي يعادل وزنه ذهبا ..........
 قبل نحو ثلاثة عقود ونصف من الان ، لفت الانظار ثلاثة اشقاء انطلقوا  من تلك المدينة النائية التي يطلق عليها اسم " بدرة " التابعة لمحافظة واسط ، ليقتحموا عالم القوة ويدكوا باقدامهم طبلات الحديد ليعلنوا عن الزمن الجميل في عالم الاثقال العراقية .
  ومع ان بداية الاثقال العراقية لم تبدأ من هناك وانما تمتد طويلا في عمقنا الرياضي الذي يشير الى انها اللعبة الوحيدة التي كانت قد منحتنا ميدالية اولمبية حتى الان من خلال برونزية الراحل البطل عبدالواحد عزيز التي حصل عليها في دورة الالعاب الاولمبية عام 1964 في طوكيو  ، الا ان ما كان يحدث في " بدرة " ليس اقل من إعادة لكتابة تاريخ هذه اللعبة على المستوى العراقي اولاً ومنه نحو المستويين العربي والآسيوي وحتى العالمي ايضا .
  ففي تلك المدينة الواقعة شرقي العراق العزيز كانت " البذرة " تنمو وسط عائلة عُرفت بعشقها لرياضة الاثقال وتعلقها بـ" الشفت " واقراص الحديد ، رغم ان اقراص الحديد لم تكن لابناء تلك العائلة سوى حلم فقط لان الواقع كان صعباً وان البديل يومها كان مجرد صفيحة دهن " الراعي " وفي داخلها قوالب اسمنتية ليس أكثر..!
  في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي كان جواد وطاهر وصالح يقارعون قوالب الاسمنت تلك وكأنهم في صراع مع الزمن بحثاً عن امل يكبر يوما بعد يوم يشدهم في ذلك وقفة ام حنون كانت بمثابة جمهور الكون كله وهي تشجع هذا وتحفز ذاك لبلوغ ناصية النجاح والتألق وطرق ابواب الغد الآتي بعناوين لا يمكن ان تستوعبها مدينة صغيرة مثل "بدرة".
  ومن هناك ، من ذلك " المصنع " الصغير الذي يفتقر لأبسط مقومات البناء الرياضي والاعداد العلمي السليم جاء جواد الاخ الاكبر  وهو يتأبط ذراعي شقيقيه طاهر وصالح ليقتحم معهما قاعة " التأميم " في بغداد ويعلن عن بداية الحكاية التي كانت بطعم الشهد وبلون الذهب وبحجم العراق كله .. فقد كانت قاعة " التأميم " مجرد محطة ثانية بعد محطة " بدرة " على طريق الامل الكبير حيث انطلق منها ابناء " الوالد المرحوم  محمد كاظم " الذي لم يكن رياضيا  لكنه  يتمتع بقوة البنية وهذا ماورثه عنه ابنائه  ليخطوا في صفحات التاريخ اسطراً لامعة تتحدث عن انجازات كبيرة صنعوها باسم العراق ليرفعوا رايته في العديد من المحافل العربية والقارية وحتى الدولية بدءاً بمرحلة الناشئين وصولاَ الى الكبار .

كان التحدي هو رأسمال الرباع الفذ صالح ، والاصرار هو المسار الذي قاده للحصول على المركز الرابع في اول بطولة عالمية للشباب يشارك فيها وهو لم يبلغ بعد الثامنة عشرة من عمره وكان ذلك في ايطاليا عام 1981 .. وتمضي الايام ليزداد بريق هذا البطل من خلال سلسلة طويلة من الانجازات اللامعة والكبيرة التي سطرها بكل جدارة وتألق حيث انتزع بطولة اسيا في الخطف بكل اقتدار في الصين عام 1984 ثم بلغ ذروة النجاح القاري بحصوله على ثلاث ميداليات ذهبية لبطولة اسيا في العام الذي اعقبه قبل ان يحقق مالم يحققه غيره في تاريخ الاثقال العراقية عندما حصل على لقب ثاني افضل رباع في العالم عام 1989  ..

كيف اصبح بطلنا الفذ صالح محمد كاظم افضل ثاني رباع في العالم؟!
ان تحقيق هكذا انجاز كبيرلبطلنا صالح  لم يكن وليد صدفة  وانما جاء من خلال الارادة والتصميم والعزيمة والغيرة  التي اظهرها في ميادين  المنافسات الدولية العديدة ومنها بطولة العالم المصغرة  التي جرت عام 1989 في  - بلغاريا  - والتي ضمت نخبة  من رباعي العالم اللذين مثلوا 53 بلدا والتي احرز فيها رباعنا صالح   المركز الاول .
اما في  - جيكوسلفاكيا  - عام 1989 وفي بطولة الابطال  فقد كان لرباعنا صولة اخرى ابهرت  العالم  حين حقق ايضاُ المركز الاول في تلك البطولة الكبيرة, وعلى ضوء ذلك الانجازين والمشاركات الاخرى الايجابية  فقد تم اختياره كثاني  افضل رباع في العالم  ..... ان ما تحقق يعتبر مفخرة  كبيرة  للرياضة العراقية بشكل عام وللعبة رفع الاثقال بشكل  خاص , وكان لذلك النجاح والتفوق العراقي صدى ايجابي  كبير في المحافل الدولية والاسيوية والعربية التي اشادة  في وقتها بذلك اللقب الذي يحلم به اي رياضي !  واضافة الى ذلك فانه صاحب 450 رقم قياسي عراقي وعربي واسيوي ....
 اما على المستوى المحلي فان ما حققه صالح كان نادرا جدا ان لم نقل انه كان فريدا حيث تربع على عرش الاثقال في جميع البطولات التي شارك فيها على امتداد عقدين كاملين من الزمن وتحديدا منذ عام 1982 وحتى عام 2002 وهو ما أهله للحصول على لقب افضل رياضي في العراق اربع مرات وكان ذلك في الاعوام 88 و 89 و 92 و 94 ليمنح بعد كل ذلك لقب رياضي القرن في رفع الاثقال العراقية ..
محطات مؤثرة في مسيرة رباعنا البطل :
من لاعب كرة قدم الى ثاني افضل رباع في العالم ؟؟!

اغلب الابطال المتميزين لهم محطات  واحداث هامة  أثرت في مسيرتهم الرياضية ومنهم الرباع صالح الذي تغيرمسار حياته , حيث انه  كان احد لاعبي كرة القدم في بداية حياته الرياضية وباصرار من اخيه الاكبر جواد الذي اجبره على مزاولة لعبة رفع الاثقال بدلا من كرة القدم ,لانه  كان يجد فيه مشروع بطل وفعلا اصبح صالح من خيرة الابطال بفضل تلك الرؤية  الصائبة من اخيه الذي  اصبح اول مدرب له ويدخل التاريخ فيما بعد...... ومن المفارقات الاخرى ان جواد كان احد ابطال كمال الاجسام وبنصيحة ومتابعة من السيد محمد عبد الكريم الخزاغي الذي كان يشغل منصب رئيس اتحاد رفع الاثقال فرع واسط مارس لعبة الاثقال واصبح كذلك بطلا فيها  .... ومن المدربين اللذين اشرفوا على البطل صالح البطل شاكرمحمود و بديع ياسين وموسى هادي والمرحوم عدنان عبد الحمزة واياد شلال  اضافة الى المدربين البلغار والروس .
بيت عائلة  الاثقال ......
اما عندما نقول ان هذا البطل ينتمي الى عائلة باتت تقترن بتاريخ الاثقال العراقية فذلك لان الامر لم يكن ليقف عند حدود " الاشقاء الثلاثة " الذين اطلقت عليهم الصحافة لقب " اشقاء من ذهب " ، وانما امتد ذلك الى جيل اخر جديد حيث ان هناك اليوم اسماء اخرى من هذه العائلة الكريمة .. وقد يكفي ان نشير الى ان مشروعنا الاولمبي الجديد ، الرباع الصاعد والمتألق كرار جواد محمد كاظم هو ابن شقيق بطلنا صالح ، هو ابن البطل جواد ، والذي نجح في الحصول مؤخرا على بطولة العالم للناشئين ثم الشباب متفوقا على رباعين كبار لم يحظى ولو بجزء يسير مما يحظون به من دعم ورعاية واهتمام .. ومثلما هو كرار فان هناك لدى هذه العائلة الرائعة مشروع بطل اخر اسمه " محمد " وهو نجل بطلنا صالح والذي ينتظره هو الاخر مستقبل لامع وكبير .
اسماء في ذاكرة لعبة رفع الاثقال ...
ونحن بصدد لعبة  رفع الاثقال التي بدأت فكرة تأسيس اتحاده  منتصف الاربعينيات , لابد من وقفة وفاء  الى  كل من ساهم في نشر اللعبة  وتطويرها  من رواد ولاعبين وباحثين , علما انها   اللعبة الوحيدة من كافة الالعاب  في تاريخ  الرياضة العراقي التي  اوصلتنا الى الحلم الاولمبي والعالميي ومنهم ... المرحوم صبري الخطاط  وفاضل عبد الجبار ومجيد السامرائي وناصر عوني وحرب ابو طارق وياسين الحمداني وعلي حميد ويوسف النعمان وجمعة حسن   ومحمد جعفر سلماسي وعبد الكريم ايوب  واحمد حسن وحميد الاعظمي وعباس غانم الدباغ واوانيس ياسيان .... ومن الرباعين هارتيون جوبنيان وعبد الواحد عزيزوكاظم عبدكة وزهير ايليا  وعبد الله حسين وسلمان داود وعبد الله رشيد  ومنير عبد القادروعبد الخالق جواد  وعبد الستار حامد  وجبار عبد العباس  وجميل بطرس ومجيد خورشيد  وشاكر محمود وطارق الاديب وطلال حسون وهاشم محمد  وناظم محمد  وفيصل مطلوب ومحمد جلود ومحمود رشيد   وكامل مسعود وحسين الزبيدي وهادي عبد الجباروبدر ياسين وزيد ياسين ومحمود صالح وكاظم الكعبي ومحمد كاظم  مزعل وخالد ذياب وفيصل فتحي وعطا الله محمد ونزار حسون وعدنان رمضان  وعبد الكريم كاظم وطاهر محمد وعبد الله عيسى  وعماد طه  ...ومعذرة لمن لم تذكر اسمائهم فهم  دوما محط اعتزازنا  ونذكرهم بالخير سواء من الراحلين رحمهم الله  أو الاحياء  منهم اطال الله في عمرهم .  
امنية لم تتحقق 
حقا ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ...كان لقاهر الحديد البطل صالح امنية كبيرة وهي رغبته الشديدة في حصوله على احدى الاوسمة الاولمبية , لكنها لم تتحقق  ؟ قالها لي بالم وحسرة مؤكدا انها كانت في متناول يده حيث بلوغه لافضل مستوى فني ونفسي  عام 1990-1991عندما استطاع ومن  خلال التدريب المتواصل  ان يخطف 172 والنتر 210 وهذا الرقم كان يكفي للحصول على احد الاوسمة الاولمبية التي خطط لها لاولمبياد برشلونة ؟ ولكن لظروف سياسية  بعد احداث 1990 وقرار المجلس الاولمبي الاسيوي بحرمان  مشاركة فرقنا الرياضية  ومنها الاثقال , الأمر الذي اثر بشكل مباشر على عملية الاعداد  المطلوبة  بسب  ذلك القرار  حيث ابتعاده لمدة عام تقريبا  عن البطولات والمنافسات خاصة الاسيوية , ولولا تلك الظروف  الاستثنائية لتحققت امنيته  التي كان جديرا بها والتي هي حلم  كل العراقيين ليضيف انجاز اخر لانجازاتها الكبيرة والعديدة واهمها اختياره (ثاني افضل رباع في العالم ) وأستحق بكل اقتدار تسمية  - رياضي القرن –
   ان الرياضة العراقية  ستبقى فخورة بما حققه الغيور البطل  صالح من  انجازات مبهرة  وغير مسبوقة على جميع المستويات محليا وعربيا واسيويا والاهم على المستوى العالمي .... وان  التاريخ سيذكره  بالاعتزاز ليس فقط  لسيرته الرياضة المشرفة بل ماتميز به من دماثة الخلق  الرفيع والتواضع .

يتضح ان  لعبة رفع الاثقال في عراقنا  العزيز – ولادة – بالابطال  الافذاد لقهر الحديد ....فبالأمس  وسام اولمبي  لبطلنا  المبدع  المرحوم عبد الواحد عزيز... واليوم وسام  لثاني  افضل بطل في العالم لصالح محمد وان  الوسامين  مكملان لبعضهما ...فمرحا للعراق بابنائه الشرفاء المخلصين الغيورين على تربتة , فعراقنا حقا يستحق الكثير وينتظر من الشرفاء ما هو اكثر...

تعليقات